لم يجتمع اهل القصيم على رجل مثلما اجتمعوا على سماحة الشيخ عبدالله بن حميد . ذلك عندما الحوا على الملك عبدالعزيز رحمه الله بأن يبقي عليه بينهم عندما اختاره مستشارا له للشؤون الدينية لما رأوا فيه من نفع لهم في القضاء والتدريس والفتيا وجمع الكلمة. فلم يجد الملك عبدالعزيز رحمه الله بدَّا من اجابة طلبهم فعاد الشيخ الى منطقة القصيم وقرت اعينهم بعودته اليهم.
في الجزء الثاني من هذه الحلقات عن حياة الشيخ عبدالله بن حميد يتناول ابنه الدكتور صالح بن حميد رئيس مجلس الشورى الحالي هذه الواقعة بعد استعراضه في الحلقة السابقة لمسيرته العلمية التي توجها بتولي القضاء في سدير والقصيم وعقد حلقات العلم في مسجد دخنة بالرياض ومسجد ناصر حتى حلقته العلمية ما بين صلاتي المغرب والعشاء خلف مقام ابراهيم في الحرم المكي الشريف.
مستشار الملك عبدالعزيز
يروي الدكتور صالح بن حميد في عام 1371هـ استدعاه الملك عبدالعزيز (رحمه الله) وعرض على فضيلته منصبا رأى مناسبا إحداثه حيث توسعت الدولة وتشعبت امور الحكم وترسخت دعائم الدولة واحتاجت الى مزيد في تراتيبها الادارية فاستحدث منصب:
«مستشار الملك عبدالعزيز للشؤون الدينية» ولكن ما ان علم اهل القصيم بهذه الرغبة الملكية حتى ارسلوا وفدا كبيرا منهم لمقابلة الملك عبدالعزيز لطلب ابقاء الشيخ عندهم لما رأوا منه من نفع للبلاد والعباد قضاء وتدريسا وفتيا وجمعا للكلمة. فألحوا على الملك عبدالعزيز في ذلك وهو يتأبى فلما رأى اصرارهم العجيب رق لهم وحمد لهم هذا الصدق في تمسكهم بالشيخ، فما كان من الملك عبدالعزيز الا ان جمع بينهم وبين الشيخ في مجلس واحد ثم قال: «هذا هو الشيخ عبدالله وها أنتم ايها الوفد».. ثم وجه حديثه الى الشيخ قائلا: «هؤلاء اهل القصيم يريدون عودتك اليهم وانا امامك ومحتاج الى بقائك عندي، فإن اخترت البقاء عندي فأنا إمامك وواجبك الطاعة لي، وان ابيت اخترتهم فالله ربنا وربك».. فأجاب الشيخ بقوله:
«انا في السمع والطاعة.. ان أمرتني بالبقاء بقيت وان امرتني بالذهاب معهم فلا يسعني الا تنفيذ ما تأمرون به».. فسكت الملك عبدالعزيز قليلا وقال: «ما دام انهم قد توجهوا من بلادهم وطلبوني فإني أوثرهم على نفسي».. وعندئذ عاد الشيخ الى منطقة القصيم وقرت اعينهم بعودة شيخهم اليهم.
انتدابه الى الحجاز
وفي عام 1372هـ انتدبه الملك عبدالعزيز رحمه الله الى الحجاز للنظر في قضايا متراكمة، اذ كان يوجد في محاكم مكة المكرمة والمدينة المنورة وجدة والطائف قضايا تعسّر البت فيها من قبل قضاة سابقين، وطال فيها النزاع وتشابك فيها الخصوم، فرأى الملك عبدالعزيز بثاقب نظره ان ليس لها سوى الشيخ عبدالله بن حميد لبعد نظره ودقة فقهه وقوة فصله، فانتدبه للنظر في هذه القضايا فمكث هناك سنة كاملة متنقلا بين هذه المدن، يمكث في كل مدينة منها المدة الكافية للنظر في قضاياها فأنجزها جميعا وحكم فيها بتوفيق من الله فوصل الحق الى اهله فكان له الثناء الجميل من ولاة الامر والمسؤولين ومن قبل العامة ايضا.
عاد بعدها الشيخ عبدالله بن حميد مرة اخرى الى القصيم ليعمل في مجال القضاء والتدريس والنظر في امور الناس وحل مشكلاتهم واستمر في القضاء حتى اواخر عام 1377هـ حيث آثر السلامة وطلب الاعفاء من منصبه فرفع تلك الرغبة الى الملك سعود (رحمه الله) فأجيب طلبه بعد عدة مراجعات من الحاح شديد فتفرغ للتدريس مكثفا دروسه حتى التف حوله الطلاب من كل حدب وصوب ومكث في القصيم حتى عام 1384هـ، انتقل بعدها للعمل في مكة المكرمة رئيسا عاما للاشراف الديني بالمسجد الحرام، وقد حزن اهل القصيم لرحيل الشيخ الجليل عنهم وبادلهم الشعور نفسه، فقد احبهم واحبوه وبقي اتصالهم به وثيقا حتى بعد رحيله عنهم الى مكة المكرمة.
مكتبة بريدة العامة
وكان من انجازات الشيخ العلمية في القصيم ان استصدر الموافقة السامية على انشاء مكتبة عامة فيها لما يعرفه من قيمة للكتاب وبناء طلب العلم عليه، فلما كان عام 1375هـ انشئت المكتبة على احدث الطرز المعمارية في ذلك الوقت وطلب لها امهات الكتب في الحديث والتوحيد والفقه والتفسير والمصطلح والنحو والادب والتاريخ والاجتماع والدوريات وغيرها من الوان الفنون والمعارف.وعندما ادخلت الخرسانة المسلحة في البناء، كان الشيخ عبدالله بن حميد اول المسارعين للاستفادة منها في بناء المساجد بعد ان كانت تبنى من اللبن والطين وتسقف بجريد النخيل وجذوعه ما يجعل بناؤها ضعيفا وعمرها قصيرا، فأعاد بناء الجامع الكبير في بريدة عندما رفع الامر الى الملك سعود فبادره بالاستجابة الى طلبه فتمت اعادة بناء الجامع وتوسعته على نفقة الملك سعود واشرف الشيخ على بنائه حتى الانتهاء منه في عام 1379هـ واستمر على حاله حتى اعيد بناؤه حديثا على نفقة خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز (يرحمه الله) في عام 1416هـ.
إشرافه على المسجد الحرام
لما رأى الملك فيصل (يرحمه الله) ان هناك حاجة لانشاء جهاز خاص بادارة المسجد الحرام، حيث كانت مسؤولياته موزعة على عدة ادارات: «وزارة الاوقاف ورئاسة القضاء وهيئة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر وغيرها»، جمع ذلك في جهاز واحد فكان الرجل المناسب هو الشيخ عبدالله بن حميد.. فهو يجمع بين العلم والتدين وبعد النظر وحسن التعامل مع الناس ولعل السمعة الحسنة التي خلفها حيث انهى عدة قضايا متراكمة في الحجاز وراء هذا الاختيار، فما ان ابدى الملك فيصل (رحمه الله) رغبته فيه حتى استجاب الشيخ لرغبته سيما انها اعمال ليست كأعمال القضاء... كان ذلك عام 1384هـ وكان اسم الجهاز الجديد آنذاك: «الرئاسة العامة للاشراف الديني على المسجد الحرام».فانتقل الشيخ عبدالله بن حميد من القصيم الى مكة المكرمة في ذلك العام وباشر عمله ورتب الادارة واتسعت دائرة اتصالاته بعلماء الحرمين الشريفين خاصة علماء المسجد الحرام والمدرسين فيه كما كثف من اتصالاته بالوافدين الى المسجد الحرام من طلبة العلم واهل الصلاح في موسمي الحج والعمرة كما شرع في التدريس ما بين المغرب والعشاء وخلف مقام ابراهيم في المسجد الحرام بمواعظ وفتاوى رصينة عبر حلقته المشهورة هناك.عن تلك الحقبة يقول عبدالعزيز الجابري (احد مرافقي الشيخ عبدالله بن حميد): عملت معه ردحا من الزمن فلم أر منه الا كل خير.. وكان اداريا حازما ومحنكا وطيب القلب تنشرح لرؤيته القلوب من اول مرة وقد سافرت معه الى الطائف والرياض وعلى الرغم من تقلده مناصب ادارية وقيادية الا ان ذلك لم يشغله مطلقا عن العلم والفتوى والتعليم والتعلم.
إلغاء الأذان الجماعي
كان من اعمال الشيخ عبدالله بن حميد عقب توليه الاشراف الديني على المسجد الحرام تنظيم ائمته ومؤذنيه حيث كان الاذان متعددا اذ كان يوجد مؤذن على كل منارة من منارات المسجد الحرام فألغى الشيخ عبدالله بن حميد ذلك وجمع المؤذنين في مؤذن واحد اذ ان مكبر الصوت كان كافيا لاسماع الاذان في جميع الارجاء فاصبح المؤذنون يتناوبون على الآذان حسب جدول مرتب، ومثلما كان الشيخ يحب اهل العلم ويكرمهم ويدنيهم اليه من مجلسه خاصة علماء المسجد الحرام ومدرسيه، كانت لهم عنده منزله خاصة وحظوة متميزة حيث كان يعتني بهم ويسعى لتهيئة الاجواء المناسبة لهم حتى يقوموا بمهمة التدريس على احسن وجه، وسعى الى صرف مكافآت تشجيعية لهم اعترافا بفضلهم وتقديرا لجهودهم.
التكبير في العيد
وحيث كان من المعتاد في العيدين ان يقوم المؤذنون في المسجد الحرام بالتكبير قبل صلاة العيد بشكل جماعي لم يستحسن الشيخ عبدالله بن حميد منهم ذلك فأمرهم بالاكتفاء بمؤذن واحد يقوم بالتكبير المشروع في العيد.
أسس «معهد الحرم»
ويمضي الدكتور صالح بن حميد في كشف خبايا من حياة والده مشيرا الى انشائه «معهد الحرم المكي» وفي ذلك يقول الدكتور صالح: عرف الشيخ بحبه للعلم وسعي في نشره ورعايته لطلابه وحدبه عليهم وحبه لهم وعلى الرغم من كونه تلميذ حلقة وشيخ حلقة ومشجعا للحلقات العلمية الا انه رأى بثاقب نظره ما عليه العصر من متغيرات وزهد الناس في التعليم الديني وانصرافهم الى التعليم النظامي لنيل الشهادات، فرأى انشاء معهد داخل الحرم يقوم على طريقة الحلقات ويأخذ من التعليم النظامي من حيث الانضباط في الحضور والانصراف في المواعيد واستقرار مواده العلمية، وبالفعل تم تأسيس معهد الحرم المكي في عام 1384هـ معادلا لمرحلتي المتوسطة والثانوية واختار له من المعلمين العلماء الاكفاء فكان نبتة صالحة لاجيال طلبة العلم والمتعلمين.
رئاسة القضاء
حينما ترك الشيخ القضاء عام 1377هـ في القصيم ما فتئ المسؤولون -حسب ابنه الدكتور صالح بن حميد- يعرضون عليه مناصب عليا ولكنه في كل مرة كان يأبى لما يدركه من شدة القضاء وعظمة الوقوف بين يدي الله فأبى لما عرضت عليه رئاسة محكمة الرياض ومحاكم مكة المكرمة والتمييز بالمنطقة الغربية ومحاكم الاحساء ومحاكم القصيم، اباها جميعها طلبا للسلامة وقبل بدلا عنها اعمالا ادارية كرئاسة الاشراف على المسجد الحرام، ولكن نظرا لسمعة الشيخ وبعد صيته في القضاء وقته، لم يفتأ المسؤولون يعملون على اقناعه بالقبول حتى حل عام 1395هـ عندما طلب منه الملك خالد بن عبدالعزيز رحمه الله ان يتولى منصب رئاسة مجلس القضاء الاعلى وهو منصب جديد استحدثه الملك خالد ليكون المرجع النهائي في القضاء وليكون من مهامه الاساسية الفصل في ما يختلف فيه القاضي مع هيئة التمييز والبت في الاحكام الكبيرة مثل القصاص والحدود وتعيين القضاة وترقيتهم واعفائهم واحالتهم على التقاعد بعد استصدار الامر السامي في ذلك حسب ما نصت عليه انظمة مجلس القضاء ولوائحه فما وسع الشيخ الا امتثال طلب الملك فتولى رئاسة مجلس القضاء الاعلى حتى وافاه الاجل وهو في هذا المنصب مرجعا لجميع القضاة في البلاد.
في الجزء الثاني من هذه الحلقات عن حياة الشيخ عبدالله بن حميد يتناول ابنه الدكتور صالح بن حميد رئيس مجلس الشورى الحالي هذه الواقعة بعد استعراضه في الحلقة السابقة لمسيرته العلمية التي توجها بتولي القضاء في سدير والقصيم وعقد حلقات العلم في مسجد دخنة بالرياض ومسجد ناصر حتى حلقته العلمية ما بين صلاتي المغرب والعشاء خلف مقام ابراهيم في الحرم المكي الشريف.
مستشار الملك عبدالعزيز
يروي الدكتور صالح بن حميد في عام 1371هـ استدعاه الملك عبدالعزيز (رحمه الله) وعرض على فضيلته منصبا رأى مناسبا إحداثه حيث توسعت الدولة وتشعبت امور الحكم وترسخت دعائم الدولة واحتاجت الى مزيد في تراتيبها الادارية فاستحدث منصب:
«مستشار الملك عبدالعزيز للشؤون الدينية» ولكن ما ان علم اهل القصيم بهذه الرغبة الملكية حتى ارسلوا وفدا كبيرا منهم لمقابلة الملك عبدالعزيز لطلب ابقاء الشيخ عندهم لما رأوا منه من نفع للبلاد والعباد قضاء وتدريسا وفتيا وجمعا للكلمة. فألحوا على الملك عبدالعزيز في ذلك وهو يتأبى فلما رأى اصرارهم العجيب رق لهم وحمد لهم هذا الصدق في تمسكهم بالشيخ، فما كان من الملك عبدالعزيز الا ان جمع بينهم وبين الشيخ في مجلس واحد ثم قال: «هذا هو الشيخ عبدالله وها أنتم ايها الوفد».. ثم وجه حديثه الى الشيخ قائلا: «هؤلاء اهل القصيم يريدون عودتك اليهم وانا امامك ومحتاج الى بقائك عندي، فإن اخترت البقاء عندي فأنا إمامك وواجبك الطاعة لي، وان ابيت اخترتهم فالله ربنا وربك».. فأجاب الشيخ بقوله:
«انا في السمع والطاعة.. ان أمرتني بالبقاء بقيت وان امرتني بالذهاب معهم فلا يسعني الا تنفيذ ما تأمرون به».. فسكت الملك عبدالعزيز قليلا وقال: «ما دام انهم قد توجهوا من بلادهم وطلبوني فإني أوثرهم على نفسي».. وعندئذ عاد الشيخ الى منطقة القصيم وقرت اعينهم بعودة شيخهم اليهم.
انتدابه الى الحجاز
وفي عام 1372هـ انتدبه الملك عبدالعزيز رحمه الله الى الحجاز للنظر في قضايا متراكمة، اذ كان يوجد في محاكم مكة المكرمة والمدينة المنورة وجدة والطائف قضايا تعسّر البت فيها من قبل قضاة سابقين، وطال فيها النزاع وتشابك فيها الخصوم، فرأى الملك عبدالعزيز بثاقب نظره ان ليس لها سوى الشيخ عبدالله بن حميد لبعد نظره ودقة فقهه وقوة فصله، فانتدبه للنظر في هذه القضايا فمكث هناك سنة كاملة متنقلا بين هذه المدن، يمكث في كل مدينة منها المدة الكافية للنظر في قضاياها فأنجزها جميعا وحكم فيها بتوفيق من الله فوصل الحق الى اهله فكان له الثناء الجميل من ولاة الامر والمسؤولين ومن قبل العامة ايضا.
عاد بعدها الشيخ عبدالله بن حميد مرة اخرى الى القصيم ليعمل في مجال القضاء والتدريس والنظر في امور الناس وحل مشكلاتهم واستمر في القضاء حتى اواخر عام 1377هـ حيث آثر السلامة وطلب الاعفاء من منصبه فرفع تلك الرغبة الى الملك سعود (رحمه الله) فأجيب طلبه بعد عدة مراجعات من الحاح شديد فتفرغ للتدريس مكثفا دروسه حتى التف حوله الطلاب من كل حدب وصوب ومكث في القصيم حتى عام 1384هـ، انتقل بعدها للعمل في مكة المكرمة رئيسا عاما للاشراف الديني بالمسجد الحرام، وقد حزن اهل القصيم لرحيل الشيخ الجليل عنهم وبادلهم الشعور نفسه، فقد احبهم واحبوه وبقي اتصالهم به وثيقا حتى بعد رحيله عنهم الى مكة المكرمة.
مكتبة بريدة العامة
وكان من انجازات الشيخ العلمية في القصيم ان استصدر الموافقة السامية على انشاء مكتبة عامة فيها لما يعرفه من قيمة للكتاب وبناء طلب العلم عليه، فلما كان عام 1375هـ انشئت المكتبة على احدث الطرز المعمارية في ذلك الوقت وطلب لها امهات الكتب في الحديث والتوحيد والفقه والتفسير والمصطلح والنحو والادب والتاريخ والاجتماع والدوريات وغيرها من الوان الفنون والمعارف.وعندما ادخلت الخرسانة المسلحة في البناء، كان الشيخ عبدالله بن حميد اول المسارعين للاستفادة منها في بناء المساجد بعد ان كانت تبنى من اللبن والطين وتسقف بجريد النخيل وجذوعه ما يجعل بناؤها ضعيفا وعمرها قصيرا، فأعاد بناء الجامع الكبير في بريدة عندما رفع الامر الى الملك سعود فبادره بالاستجابة الى طلبه فتمت اعادة بناء الجامع وتوسعته على نفقة الملك سعود واشرف الشيخ على بنائه حتى الانتهاء منه في عام 1379هـ واستمر على حاله حتى اعيد بناؤه حديثا على نفقة خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز (يرحمه الله) في عام 1416هـ.
إشرافه على المسجد الحرام
لما رأى الملك فيصل (يرحمه الله) ان هناك حاجة لانشاء جهاز خاص بادارة المسجد الحرام، حيث كانت مسؤولياته موزعة على عدة ادارات: «وزارة الاوقاف ورئاسة القضاء وهيئة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر وغيرها»، جمع ذلك في جهاز واحد فكان الرجل المناسب هو الشيخ عبدالله بن حميد.. فهو يجمع بين العلم والتدين وبعد النظر وحسن التعامل مع الناس ولعل السمعة الحسنة التي خلفها حيث انهى عدة قضايا متراكمة في الحجاز وراء هذا الاختيار، فما ان ابدى الملك فيصل (رحمه الله) رغبته فيه حتى استجاب الشيخ لرغبته سيما انها اعمال ليست كأعمال القضاء... كان ذلك عام 1384هـ وكان اسم الجهاز الجديد آنذاك: «الرئاسة العامة للاشراف الديني على المسجد الحرام».فانتقل الشيخ عبدالله بن حميد من القصيم الى مكة المكرمة في ذلك العام وباشر عمله ورتب الادارة واتسعت دائرة اتصالاته بعلماء الحرمين الشريفين خاصة علماء المسجد الحرام والمدرسين فيه كما كثف من اتصالاته بالوافدين الى المسجد الحرام من طلبة العلم واهل الصلاح في موسمي الحج والعمرة كما شرع في التدريس ما بين المغرب والعشاء وخلف مقام ابراهيم في المسجد الحرام بمواعظ وفتاوى رصينة عبر حلقته المشهورة هناك.عن تلك الحقبة يقول عبدالعزيز الجابري (احد مرافقي الشيخ عبدالله بن حميد): عملت معه ردحا من الزمن فلم أر منه الا كل خير.. وكان اداريا حازما ومحنكا وطيب القلب تنشرح لرؤيته القلوب من اول مرة وقد سافرت معه الى الطائف والرياض وعلى الرغم من تقلده مناصب ادارية وقيادية الا ان ذلك لم يشغله مطلقا عن العلم والفتوى والتعليم والتعلم.
إلغاء الأذان الجماعي
كان من اعمال الشيخ عبدالله بن حميد عقب توليه الاشراف الديني على المسجد الحرام تنظيم ائمته ومؤذنيه حيث كان الاذان متعددا اذ كان يوجد مؤذن على كل منارة من منارات المسجد الحرام فألغى الشيخ عبدالله بن حميد ذلك وجمع المؤذنين في مؤذن واحد اذ ان مكبر الصوت كان كافيا لاسماع الاذان في جميع الارجاء فاصبح المؤذنون يتناوبون على الآذان حسب جدول مرتب، ومثلما كان الشيخ يحب اهل العلم ويكرمهم ويدنيهم اليه من مجلسه خاصة علماء المسجد الحرام ومدرسيه، كانت لهم عنده منزله خاصة وحظوة متميزة حيث كان يعتني بهم ويسعى لتهيئة الاجواء المناسبة لهم حتى يقوموا بمهمة التدريس على احسن وجه، وسعى الى صرف مكافآت تشجيعية لهم اعترافا بفضلهم وتقديرا لجهودهم.
التكبير في العيد
وحيث كان من المعتاد في العيدين ان يقوم المؤذنون في المسجد الحرام بالتكبير قبل صلاة العيد بشكل جماعي لم يستحسن الشيخ عبدالله بن حميد منهم ذلك فأمرهم بالاكتفاء بمؤذن واحد يقوم بالتكبير المشروع في العيد.
أسس «معهد الحرم»
ويمضي الدكتور صالح بن حميد في كشف خبايا من حياة والده مشيرا الى انشائه «معهد الحرم المكي» وفي ذلك يقول الدكتور صالح: عرف الشيخ بحبه للعلم وسعي في نشره ورعايته لطلابه وحدبه عليهم وحبه لهم وعلى الرغم من كونه تلميذ حلقة وشيخ حلقة ومشجعا للحلقات العلمية الا انه رأى بثاقب نظره ما عليه العصر من متغيرات وزهد الناس في التعليم الديني وانصرافهم الى التعليم النظامي لنيل الشهادات، فرأى انشاء معهد داخل الحرم يقوم على طريقة الحلقات ويأخذ من التعليم النظامي من حيث الانضباط في الحضور والانصراف في المواعيد واستقرار مواده العلمية، وبالفعل تم تأسيس معهد الحرم المكي في عام 1384هـ معادلا لمرحلتي المتوسطة والثانوية واختار له من المعلمين العلماء الاكفاء فكان نبتة صالحة لاجيال طلبة العلم والمتعلمين.
رئاسة القضاء
حينما ترك الشيخ القضاء عام 1377هـ في القصيم ما فتئ المسؤولون -حسب ابنه الدكتور صالح بن حميد- يعرضون عليه مناصب عليا ولكنه في كل مرة كان يأبى لما يدركه من شدة القضاء وعظمة الوقوف بين يدي الله فأبى لما عرضت عليه رئاسة محكمة الرياض ومحاكم مكة المكرمة والتمييز بالمنطقة الغربية ومحاكم الاحساء ومحاكم القصيم، اباها جميعها طلبا للسلامة وقبل بدلا عنها اعمالا ادارية كرئاسة الاشراف على المسجد الحرام، ولكن نظرا لسمعة الشيخ وبعد صيته في القضاء وقته، لم يفتأ المسؤولون يعملون على اقناعه بالقبول حتى حل عام 1395هـ عندما طلب منه الملك خالد بن عبدالعزيز رحمه الله ان يتولى منصب رئاسة مجلس القضاء الاعلى وهو منصب جديد استحدثه الملك خالد ليكون المرجع النهائي في القضاء وليكون من مهامه الاساسية الفصل في ما يختلف فيه القاضي مع هيئة التمييز والبت في الاحكام الكبيرة مثل القصاص والحدود وتعيين القضاة وترقيتهم واعفائهم واحالتهم على التقاعد بعد استصدار الامر السامي في ذلك حسب ما نصت عليه انظمة مجلس القضاء ولوائحه فما وسع الشيخ الا امتثال طلب الملك فتولى رئاسة مجلس القضاء الاعلى حتى وافاه الاجل وهو في هذا المنصب مرجعا لجميع القضاة في البلاد.